الأديب لا يستسيغ الرياضيات، والرياضي لا يتذوق الأدب. ومن أنعم الله عليه بالذوق الأدبي سلبه الرغبة في العلوم الرياضية بأرقامها ومعادلاتها . ومن وجد في البديع والبيان لذة ومتاعا ، مال عن مشاكل الأعداد ، وتهيب الاشتغال بالأشكال وقوانينها .
والذي نشأ على الأدب وتشبع بروحه ، كره فروع العلوم الدقيقة وأشاح بفكره عنها.
هذا ما يقوله كثير من المتعلمين، ويكاد يكون هذا القول اعتقادا عند أصحاب الثقافة العالية. ولقد أثبت الواقع خلاف هذا ، وأنه يمكن للرياضي أن يكون أديبا ، كما يمكن للأديب أن يهيم بالعلوم الرياضية . وإذا اطلعنا على كتب الأقدمين من علماء العرب ونوابغهم ، وجدنا أن بعضا منهم جمع بين الأدب والرياضيات، وأن منهم من برز في كل منهما، وقد حلق في الناحيتين وكان له فيهما جولات موفقات.
ولقد امتاز العرب في الجمع بين الفروع المختلفة من : الأدب والعلوم الرياضية وفاقوا
بذلك غيرهم من الأمم ، فنجد من علمائها من أجاد فيها وغاض على دقائقها ووقف على روائعها . ومن يطلع على كتاب "الجبر والمقابلة" يجد أن المؤلف جمع بين الجبر والأدب وجعلهما متممين أحدهما للآخر، فالمادة الرياضية موضوعة في أسلوب أخاذ لا ركاكة فيه ولا تعقيد ينم عن أدب رفيع وإحاطة كلية بدقائق اللغة. ونظرة إلى كتب البيروني يتبين منها أن تعانق الأدب والرياضيات بما فيها الفلك والطبيعيات ممكن . وما يقال عن مؤلفات الخوارزمي والبيروني يقال عن مؤلفات البتاني والبوزجاني وابن حمزة ,ابن قرة والطوسي وغيرهم من عباقرة العرب. من منا لم يسمع عن "الخيام" ومن منا لم يقرأ رباعياته. فلقد كان شاعرا وفيلسوفا وأديبا ، وقد لا يعرف كثيرون أنه كان فوق هذا كله رياضيا وفلكيا . فقد ألف في الجبر والفلك ، وإليه يرجع الفضل في وضع بعض القوانين في نظريات الأعداد ، وابتكار طرق جديدة في حل المعادلات من الدرجة الثانية ، وبعض أوضاع الدرجة الثالثة. من منا يجهل "ابن سينا" الفيلسوف الطبيب الشاعر ، و"الكندي" الذي سرى ذكره في كل ناد ، و "الفارابي" و"ابن رشد"... الخ و" ابن الهيثم" ماذا أقول عنه ؟ إنه من مفاخر الأمة العربية ، ومن علماء العرب العالميين ، برع في الرياضيات وسما في البصريات ، ولولاه لما تقدمت تقدمها المشهود ، طبق الهندسة على المنطق ، ولولا تضلعه من اللغة ووقوفه على قواعدها ودقائقها ، ولولا أسلوبه الأخاذ لما كان في استطاعته أن يؤلف المؤلفات القيمة ويضع الرسائل النفيسة ، تقرأ مؤلفه في البصريات فيحببها إليك ، ويرغبك في الاستزادة منها. ولو جئنا نعدد جميع علماء العرب الذين برزوا في الأدب والرياضيات والفلك ، وجعلوا من الأدب واسطة لترغيب الناس ، لطال بنا المقال. وبلغ هيام العرب في الناحيتين درجة جعلت بعضهم ينظم القوانين الرياضية والمعادلات العويصة والظواهر الفلكية شعرا . فهناك شعراء عكفوا على دراسة الرياضيات والفلك ، وشعروا بلذة في دراستهما وبلغوا فيهما ذروة يحسدهم عليها الكثيرون.